العلوم الشرعية -الشريط السابع-

فكتاب "المُعْلِم" هو دروس كان يلقيها في الجامع في فترة رمضان في شرح صحيح مسلم، فكان بعض الطلاب يكتبونها، فجمع ذلك في هذا الكتاب، كتاب "المعلم" وقد طبع بتحقيق محمد الشاذلي النيفر طبعة دار الغرب الإسلامي في ثلاث مجلدات، وفيه فوائد كثيرة جدا مع ألفاظ دقيقة، إذا قرأها الإنسان لم يظن أنها درس يكتب بالإملاء دون الرجوع إلى الكتب ، والذين لديهم هذه الملكة فيما يتعلق بالإملاء أن تكون ألفاظهم التي يملونها مثل الألفاظ التي يكتبونها بأيديهم قلائل جدا ، كثير من الناس فصاحتهم في ألسنتهم، وكثيرون كذلك فصاحتهم في أقلامهم، فالذين فصاحتهم تجمع بين الأمرين القلم واللسان قلائل، ومنهم الإمام المازري، ومنهم كذلك الإمام ابن دقيق العيد، فشرحه على العمدة كان إلقاء، مجرد دروس يمليها من حفظه، وشرحه على الأربعين النووية ـ كذلك ـ كان إلقاء، درس فقط، وإذا قرأه الإنسان يظن أنه تفكير إنسان يكتب بيده ويجتهد، وبالأخص التركيز البالغ في شرح العمدة ، مع أنه مجرد إملاء يمليه من حفظه.

جاء بعد المازري الإمام أبو العباس القرطبي الأندلسي ، فاختصر صحيح مسلم وبوبه ، جعل له أبوابا لأن مسلما جعل له كتبا ولم يجعل له أبوابا بخلاف البخاري ، فالبخاري كتب الكتب والأبواب ، ومسلم كتب الكتب في الصحيح وما كتب أبوابا ، فجاء الإمام أبو العباس فوضع أبوابا للصحيح ، تناسب الأحاديث التي يوردها مسلم ، واختصره وشرح مختصره ، مختصره ليس على ترتيب الصحيح ، يقدم بعض الأبواب في بعض الكتب ، ويؤخر بعضا على حسب المناسبات التي يراها هو ، شرحه شرحا سماه \"المفهم في شرح اختصار صحيح مسلم\" وقد طبع.

ثم جاء القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، فألف إكمال \"المعلم\" أكمل به كتاب المازري ، حتى كان محتويا على جميع صحيح مسلم ، فكان شرحا لجميع الصحيح ، وهو كثير الفوائد وبالأخص في المجال الفقهي ، واعتنى فيه القاضي ـ رحمه الله ـ بروايات الصحيح ، لكن المشكلة أن القاضي ليس صاحب رحلة ، فالروايات الموجودة في المشرق لم تصل إليه ، لم يصل إليه بعضها فكان ينفي وجودها ، ولكن ينفي ذلك في بلاده يقول : \"لا يوجد في بلادنا رواية للصحيح تثبت كذا\" ، وكان دقيقا جدا لأنه كان يحفظ صحيح مسلم مثل ما يحفظ الفاتحة ، فكان دقيقا جدا في الرواية فيه ، وقد كان رحمه الله يريد أن يزيد في شرحه حتى توفي رحمة الله عليه، ذبحه الموحدون فقد كان قاضيا لدولة المرابطين، فكان يريد الزيادة في بعض المواطن من شرح صحيح مسلم، ولهذا فقد توسع في شرح بعض الأحاديث وجعلت كتبا مستقلة ، مثل كتابه \"بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد\" حديث أم زرع وحده ألف فيه كتابا \"بغية الرائد\" وهو مطبوع ، وكان كذلك يريد إثبات أسانيده في مقدمة كتابه ولم تثبت ، وهي موجودة في كتابه \"الغنية\" وهو مطبوع في أسانيد عياض كلها.

ثم جاء بعده الإمام النووي ، أبو زكرياء يحيى بن شرف الدمشقي ـ رحمه الله ـ فاعتنى بصحيح مسلم عناية بالغة ، وشرحه شرحا وضع الله له القبول فاشتهر وانتشر في البلاد ككتب النووي ، كتب ـ سبحان الله ـ وضع الله عليها قبولا عجيبا ، رغم ما فيها ـ في بعض الأحيان ـ  من الأخطاء ورغم قصر عمر الرجل فإنه لم يعش إلا إحدى وأربعين سنة ، ومع ذلك وضع الله القبول على هذه الكتب ، فسارت بها الركبان في مشارق الأرض ومغاربها ، كتابه هذا \"المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج\"  كتاب جمع فيه بين ما ذكره المازري وما ذكره القاضي عياض وأضاف إليه الكلام أيضا على الروايات المشرقية في صحيح مسلم ، فلذلك يرد على عياض في ما يتعلق بالروايات ، وقد اعتنى الحافظ بن حجر فيما يتعلق بالروايات من الكتابين في فتح الباري ، في الأحاديث المشتركة ، التي أخرجها البخاري ، يعتني الحافظ بكلام القاضي عياض وكلام النووي فيما يتعلق بالروايات ، مثل حديث جعفر بن مبشر الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعرابي \"أفلح وأبيه إن صدق\" ، فقد ذكر القاضي أن بعض الناس يرويه \"أفلح والله إن صدق\" ، ويزعم أن أصل الكلمة \"والله\" كتبت هكذا فقصر اللامان فقرأها بعض الناس \"وأبيه\" لأن النقاط لم يكن يعتنى بها ، وقال هذا باطل لأن الرواية الثابتة عندنا \"أفلح وأبيه إن صدق\" ولا يوجد في بلادنا رواية لصحيح مسلم تروي \"والله\" ، وقد ذكر الحافظ أنه ربما وجدت رواية لصحيح مسلم فيها \"والله\".

كذلك جاء الأبي وهو تلميذ ابن عرفة المشهور، فيما يتعلق بالمنقول وقد كان ابن عرفة الورغمي إمام جامع عقبة بن نافع في تونس  بالقيروان إماما في المعقول والمنقول ، وهو من أشهر محققي المالكية في ذلك الزمان ، لكنه كان من تلامذته البرزلي والأبي، فكان لا ينام في الليل فقالت له جاريته ما لك يا سيدي لا تنام ؟ قال لها : كيف أنام وسأصبح بين هذين الأسدين الضاريين ، بين الأبي بنقله والبرزلي بعقله، فكانا يناقشانه في كل أمر ، فكان يبيت يراجع معلوماته ويقول إذا قلت في الدرس كذا سيعترض الأبي بكذا ، فالجواب عنه كذا، ويعترض البرزلي بكذا، فالجواب عنه كذا، والجواب عن ذلك الجواب يمكن أن يكون كذا، ويأتي بالاحتمالات كلها ويردها، يحضر الدرس تحضيرا محكما، وقد كان ابن عرفة ـ رحمه الله ـ رجاعا إلى الحق، ويقال إنه أصيب بمرض بسبب عدم النوم ، وهذا المرض هو نقص الذاكرة، فكان إذا عرض عليه شيء من تقييداته لم يفهمه، لأنه كان مولعا بدقة الأسلوب وصعوبته، ولذلك من قرأ مختصره في الفقه المالكي الآن لا يفهم منه إلا النوادر، لا تكاد تفهم منه شيئا، واعتنى بالحدود والتعريفات عناية بالغة حتى كان المالكية إذا أرادوا أن يعرفوا شيئا قالوا تعريف ابن عرفة له أو حد ابن عرفة له، وقد جمعت حدوده وشرحها الرصاع في كتابه شرح حدود ابن عرفة، وهو مطبوع في مجلدين، فالأبي ـ رحمه الله ـ كمل كتاب القاضي عياض بإضافة كثير من الفوائد إليه كان القاضي عازما على إضافتها ، وبالأخص في المجال الفقهي والعقدي والسلوكي ، وذكر فيه أبحاثا أصولية كذلك ، فكان كتابه من أهم الكتب وكان يرمز للكتب السابقة ، كل شرح من شروح مسلم يرمز له برمز معين بحرف ، وسما كتابه \"إكمال إكمال المعلم\" ، فالقاضي سمى كتابه \"إكمال المعلم\" وهذا سماه \"إكمال الإكمال\".

ثم جاء بعده السنوسي ، وهو قد توفي سنة 1040هـ متأخر ، وقد ألف كتابه \"تكملة إكمال إكمال المعلم\" ، جمع فيه الفوائد التي أضافها النووي وزاد عليها واعتنى كذلك بأصول الفقه وعلم الكلام ، فأضاف ذلك في كتابه.

وقد ألف السيوطي كتابا مختصرا على صحيح مسلم سماه \"الديباج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج\" موجود مخطوط في مجلد واحد صغير ، وقد طبع الآن في أجزاء ، مع أنه موجود مختصر في دفتر ، دفتر صغير ـ سبحان الله ـ  المخطوط.

ومع هذا فقد بقي صحيح مسلم محتاجا إلى الآن لبعض الخدمة ، وقد شعر القدماء بحاجة صحيح مسلم للخدمة حتى إن ابن الصلاح ألف فيه كتاب \"صيانة صحيح مسلم عن الغلط والتحريف والتصحيف\" وهذا الكتاب طبع وحده وطبع أيضا مع صحيح مسلم الطبعة هذه التي في مجلد واحد ، مطبوع معه كتاب \"صيانة صحيح مسلم..\"

كذلك الكتاب الرابع من الكتب الحديثية التي اعتني بها في الشرح كتاب سنن أبي داود ، وقد سبق أن الخطابي شرحه ، ولكنه لم يعتن بروايات السنن ، وروايات السنن التي اشتهرت أشهرها روايتان رواية اللؤلئي، ورواية ابن داس فهذه أشهر روايات سنن أبي داود ، وبينها اختلاف بين حتى في تقديم الأحاديث وتأخيرها وتصحيحها وتضعيفها ، والأحكام التي يوردها أبو داود بعدها ، فلذلك يحتاج إلى الجمع بين هذه النسخ المختلفة ، ولم يعتن بذلك الخطابي ، بل لم يشرح كل الأحاديث في سنن أبي داود.

وقد اختصر المنذري سنن أبي داود كما اختصر صحيح مسلم ، فشرح ابن القيم مختصر المنذري ، ولم يرد كذلك فيما يبدو شرح الكتاب كاملا ، وإنما أراد أن يكتب عليه تعليقات وفوائد ، يتوسع في بعض الأبحاث ويتجاوز ويضرب صفحا عن كثير من الأحاديث ما تكلم عليها.

واعتنى بشرحه ولي الله الدهلوي الذي هو صاحب النهضة الحديثية في الهند ، فاعتنى بسنن أبي داود عناية بالغة ، لكن المؤسف أنما كتبه عليه من الشروح ضاعت كلها ، ولم يصل إلينا منها أي شيء ، ونهبت في أيام ولده إسماعيل ، وقد أسف ولده على ضياع هذه الكتب ، فأمر بعض طلابه فبالعناية بجمع نسخ سنن بي داود ، فجمعوا منها عددا كبيرا وقابلوها ، فكانت النسخة التي لديهم مقابلة عليها اختلاف الروايات ، وعليها شرح صاحب عون المعبود ، فالطبعة الهندية القديمة من عون المعبود فيها اختلاف الروايات في سنن أبي داود ، لكن المشكلة أن المطابع استثقلت هذا الاختلاف في الروايات فحذفته في الطبعات الجديدة ، لأنهم ليسوا طلاب علم ولا يظنون في هذا فائدة فحذفوه ، ولذلك هذه الطبعة الهندية نافدة الآن من الأسواق تقريبا لا توجد في البلاد العربية للبيع ، وهي فيها فوائد جليلة جدا في اختلاف النسخ.

والهنود اعتنوا بسنن أبي داود فكتبوا عليه عددا من الشروح منها \"بذل المجهود\" ـ بالإضافة إلى عون المعبود طبعا ـ لكن عون المعبود أحسنها وأهمها ، ومؤلفه من هؤلاء الهنود المتأخرين الذين تأثروا بالنهضة التي أقامها ولي الله الدهلوي.

السيوطي كذلك شرح سنن أبي داود شرحا مقتضبا على عادته هو ،  ومثل ذلك السندي له حاشية عليه مثل ما له حواش على الكتب الستة كلها ، حاشية على صحيح البخاري مطبوعة ، وحاشية على صحيح مسلم غير مطبوعة ، وحاشية على سنن أبي داود مطبوعة ، وحاشية على سنن النسائي مطبوعة ، وحاشية على سنن الترمذي غير مطبوعة ، وحاشية على سنن ابن ماجه مطبوعة ، طبعت حاشيته على صحيح البخاري وحاشيته على أبي داود ، وحاشيته على النسائي ، وحاشيته على ابن ماجه.

وما زال سنن أبي داود محتاجا للشروح والعناية ، ولذلك فالطبعات الموجودة منه التي قد أشرنا من قبل إليها فيها كثير من الاختلاف البين ، فأحسنها طبعة عبيد الدعاس وزملائه ـ عزت عبيد الدعاس ـ وفيه طبعة حققها أو صححها محي الدين عبد الحميد بالضبط فقط ، لأن محي الدين عبد الحميد ليس محدثا وإنما هو لغوي ونحوي ، فعمله فيها لا يعدو ضبط الألفاظ وشكل الكلمات المحتاجة إلى الشكل.

ثم سنن الترمذي وقد شرحه أبو بكر بن العربي في كتابه \"عارضة الأحوذي\" ، والعارضة الجناح الخفي الخفيف ، والأحوذي النسر الصغير الذي يبعد الطيران في الهواء ، فجناح النسر يسمى كذلك \"أحوذيا\" ، والأحوذي النسر وجناحه كذلك ، ومنه قول الشاعر :

*على أحوذيين استقلت عشية ** فما هي إلا لمحة وتغيب*

ومقصود ابن العربي ـ رحمه الله ـ أن كتابه مجرد عارضة ولا يقصد به تغطية الكتاب كاملا ، وأتى فيه بكثير من الفوائد والعلوم ، ولكن المشكلة أنه لم يطبع طباعة كافية ، فالطبعات كلها الموجودة منه فيها من الأخطاء ما لا يعلمه إلا الله ، الحذف والسقط ، والتحريف البالغ جدا، فعندما يورد الحديث يقول هذا الحديث فيه خمس مسائل فقهية ، وثلاث مسائل عقدية ، ومسألتان أصوليتان ، فإذا راجعت المسائل لا تجد إلا مسألتين فقهيتين ، ومسألة واحدة عقدية ، وهكذا مسخ كامل ومع هذا ففي المطبوع منه فوائد جليلة جدا ، وفيه كثير من المسائل لا توجد إلا فيه.

ومن شروح سنن الترمذي الجيدة كتاب \"النفح الشهي\" للحافظ ابن سيد الناس، وهو موجود مخطوط متكامل وقد حقق منه الدكتور أحمد معبد ثلاث  مجلدات ، فيها ظهر ثلاثة عشر حديثا فقط، لأنه يطيل في التخريج إطالة عجيبة.

وقد شرحه ـ كذلك ـ المبارك فوري بكتابه \"تحفة الأحوذي\" وهو كتاب جيد ، اعتنى فيه بالتخريج وبالفقه عناية جليلة ، واعتمد في التخريج الفقهي على نصب الراية للزيلعي ، وكذلك اعتنى بالطرق وبالأخص ما يورده الحاكم منها في المستدرك ، وما يورده البيهقي في \"السنن الكبرى\" وفي \"معرفة السنن والآثار\" فكتابه عموما مفيد ، لكن سنن الترمذي بحر لا ساحل له لعدة جوانب ، فالذي يريد تدريسه أوشرحه يحتاج إلى هذه الأمور :

أولا يحتاج إلى مقارنة النسخ لاختلافها في الحكم ، فإن الترمذي في بعض النسخ يقول \"صحيح\" وفي بعضها يقول \"حسن\" وفي بعضها \"حسن صحيح\" وفي بعضها حسن صحيح غريب\" في الحكم على الحديث الواحد ، وهذا الاختلاف في تدقيق هذا الحكم وحده يستحق عملا كبيرا.

الأمر الآخر : أن كتاب الترمذي مستخرج على الصحيحين ، فلهذا إذا كان الحديث مشتهرا في الصحيحين يورده من طريق غير طريق الصحيحين ثم يقول وفي الباب عن فلان وفلان من الصحابة ، فتحتاج إلى أن تعرف الأحاديث المطوية التي يشير إليها ، وقد ألف فيها بعض السابقين \"اللباب في قول الترمذي في الباب\" ألف فيها ابن الملقن وغيره ، ولكن لا يوجد شيء منها بأيدينا اليوم ، ولم يعتن بها المبارك فوري بالقدر الكافي ، والنسخ المطبوعة من سنن الترمذي ـ كذلك ـ متفاوتة فقد كان الشيخ أحمد شاكر ـ رحمة الله عليه ـ يريد أن يخرج نسخة صحيحة من سنن الترمذي على عادته هو في التدقيق في الإخراج ، لكنه لم يكتب منها إلا مجلدين ، ووافته المنية قبل إكمالها فجاء بعده محمد فؤاد عبد الباقي فأراد أن يصحح جزء واحدا فعلى الأقل رقم أحاديثه وأبوابه على وفق الموجود في التحفة للمزي ، ولكنه لا يستطيع أن يحكم ولا أن يخرج كما فعل أبو الأشبال، وأيضا لم يفعل ذلك إلا لمجلد واحد ، المشكلة أن دور النشر أرادت أن تكمل الكتاب فعهدت به إلى من ليس أهلا لذلك ، فطبع طبعتين إحداهما بإكمال عطية عوض عطوه ، وهذا فيه من الأخطاء الشيء الكثير العجيب، ومن عجائب ما يذكر أنه ـ مثلا عند إيراد الحديث \"ترث المرأة لقيطها وعتيقها وولدها الذي لاعنت عليه\" جعل عليه رقما وكتب تحت \"العنت المشقة\"، المشكلة أنه في المتن اللفظ صحيح هو لم يكتب \"لا عنة عليه\" وإنما كتب \"لاعنت عليه\" ، فهذا النوع من البلاهة عجيب جدا، وقد سار على أثره ـ أيضا ـ الرجل الثاني الذي تبعه على هذا وهو يوسف كمال الحوت فأثبت الأخطاء كما هي وزاد عليها أخطاء أخرى، وتحقيق عزت الدعاس أحسن من هذا وذاك، وياليته كان أتى بالفوائد التي أتى بها شاكر في الجزئين الأولين الأول والثاني، لكنه لم يفعل، وقد جاء بشار عواد فأخرج نسخة منه ترك فيها الرجوع إلى كثير من المخطوطات، وأهمل فيها الرجوع أيضا إلى المطبوعات، لكن على الأقل هي نسخة سليمة في ذاتها وشكلها، والأخطاء التي وجدت لدى الحوت ولدى عطية عطوه لم يوردها هو، لكنه أهمل كثيرا مما أورده الدعاس ، مثلا مقارنة النسخ الخطية.

بعد هذا كتاب سنن النسائي وهذا الكتاب العناية به قليلة من ناحية الشرح ، فلا أعرف للمتقدمين شرحا عليه ، أول من وصلنا شرحه عليه السيوطي ، شرحه مثل عادة السيوطي ، ثم السندي الذي له حاشية عليه مطبوعة مع شرح السيوطي ، وقد كان الشيخ محمد المختار بن أحمد مزيد يريد شرحه ، كان يدرسه في الحرم المدني ، فشرح منه أحاديث يسيرة في ثلاثة أجزاء ، توسع هو لأنه يتوسع في التخريج والناحية الفقهية ، ثم عاجلته المنية قبل إكماله ـ والد محمد بن محمد المختار ، هذا المدرس الآن في الحرم ، ولم يعط الكتاب من العناية ما يكفي أيضا ، فهو ما زال محتاجا إلى أن يشرح وأن يعتنى به.

أما سنن ابن ماجه فقد اعتنى به قديما البوصري ، لكن عنايته به تعلقت بزوائده فقط ، الأحاديث التي زادها على الكتب الخمسة الأخرى، وقد طبع \"مصباح الزجاجة\" للبوصري، وقد اختصر محمد فؤاد عبد الباقي في نسخته من سنن ابن ماجه حكم البوصري على الزوائد فيكتب في الزوائد كذا في ذيل الحديث ، وكذلك عليه حاشية السندي وشرح السيوطي ، ولم يعتن به بالقدر الكافي، شرح ابن قطلوبغا ، لكنه مختصر كذلك وما فيه الكفاية ، والكتاب محتاج إلى الآن أيضا للعناية ، ولهذا فالنسخ المجودة الآن ـ المطبوعة منه ـ فيها أخطاء ، وأحسنها نسخة فؤاد عبد الباقي ، وفيه نسخة بشار كذلك الجديدة هذه ، وقبلها نسخة الأعظمي ، وفيها أخطاء فادحة ، والآن احسين بن ناصر الحكمي يحاول خدمة الكتاب ، وقد جمع كثيرا من المعلومات عن الكتاب وراجع كثيرا من النسخ ولكن لم يخرج شيئا مطبوعا إلى الآن.

بالنسبة لمسند الإمام أحمد لم يحظ بكثير من الشروح ، لأنه في حياة المؤلف وحياة ابنه وحياة أبي بكر القطيعي كان محصورا في الرواية على شخص واحد في كل طبقة فلذلك لم يعتن به بالقدر الكافي، وإن كان ألف أقوام كتبا تتعلق به تخدم بعض الجوانب مثل ترتيب الصحابة في المسند لابن الجوزي ومثل القول المسدد في الذب عن مسند الأمام أحمد في الرد على ابن الجوزي نفسه حين ذكر بعض الأحاديث التي زعم أنها موضوعة وهي في المسند ، فذب عنه الحافظ بن حجر بهذا الكتاب ، وكذلك السيوطي يذب عنه في كتابه الذي سماه \"القول الحسن في الذب عن جميع السنن\" تعرض فيه أيضا لكل ما زعم ابن الجوزي أنه موضوع وهو في السنن أو في المسند أو في المستدرك.

وقد حاول الشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه أن يخرج الكتاب في صورة مرضية وطبع منه 22 مجلدا فيها تقريبا ربع الكتاب، وصل تقريبا منتصف الجزء الثاني أو أكثر قليلا، فتوفي قبل إكماله، وعموما ما خدمه هو من المسند كانت خدمته فيه جليلة وواضحة، وما خدم الكتاب خدمة أخرى تكفي فقد كان الشيخ الساعاتي البنا ـ رحمة الله عليه ـ رتب الكتاب على ترتيب العلم، أخرجه عن طريقة المسند كعادته فقد فعل هذا أيضا بكتاب مسند الطيالسي في منحة المعبود ورتب مسند الإمام أحمد كذلك في كتابه الفتح الرباني في ترتيب مسند الأمام أحمد الشيباني، وحاول شرح بعض الأحاديث فيه لكن لم يستوعب شرح الكتاب ، وأيضا الشرح يورد فيه إسناد الإمام أحمد لأنه يأتي بالأحاديث أولا مجردة عن الأسانيد ثم يورد الأسانيد في الشرح ، وعموما الكتاب مازال محتاجا إلى خدمة جليلة ، وقد بدأ مشروع تحقيقه هذا الذي طبع منه الآن ثلاثون مجلدا ، تحت إشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط ، فعسى الله أن يتمه على خير.

كذلك مستدرك الحاكم ولم يعتن به في زمام المؤلف ، وأول  من اعتنى به تقريبا عناية بالغة الإمام الذهبي ، وقد لخصه تلخيصا ينتقد فيه حكم الحاكم على الأحاديث ، وطريقته في التلخيص لم تكن منضبطة، فيسكت عن كثير من الأحاديث والأحكام وهو لا يوافق الحاكم في الحكم عليها ، وكذلك يحذف إسناد الحاكم من أوله ويذكر الإسناد من الوسط ، يجتزئ في الإسناد على طريقة المزي في التحفة ـ تقريبا ـ وقد طبع بهامش المستدرك وليس عليه شرح، فقط العناية التي فعلها الذهبي في التلخيص وقال \"أرجوا أن يقيض الله لهذا الكتاب من طلبة العلم البارعين من يكمل هذا العمل ، وإلى الآن ما وجد ذلك ، الشيخ محمود يحاول إخراج الكتاب وتحقيقه لكن ما رأينا شيئا برز إلا الآن.

بالنسبة لسنن البيهقي اعتنى به ابن قطلوبغا فألف كتابه الجوهر النقي على سنن البيهقي وهو حاشية مختصرة جدا ، ويعتني فيها بالرد على البيهقي إذا خالف أبا حنيفة ، عندما يخالف الحنفية يهجم عليه فقط ، ولذلك فلا يكفي هذا لخدمة الكتاب ، والكتاب من الذين اعتنوا به الإمام النووي حفظا ودراسة وتدريسا ، وكنا نود لو أن النووي ـ رحمه الله ـ شرحه ولذلك فقد ذكر في التقريب أنه مما ينبغي أن يعتني به طالب العلم ويبذل فيه جهده كتاب البيهقي ويذكر هذا أهل المصطلح كلهم ، إذا ذكروا مكتبة المحدث يختمونها بكتاب البيهقي ، ويثنون عليه ثناء عطرا ، ولذلك ما زال الكتاب محتاجا إلى خدمة.

من الكتب التي شرحت واعتنى بها الناس في الشرح كتاب \"مشكاة المصابيح\" للتبريزي وهو اختصار \"المصابيح\" للبغوي وقد اعتنى بها المتأخرون فوضعوا لها عدة شروح ، منها \"مرقاة المفاتيح\" و\"مرعاة المفاتيح\" كلاهما على \"مشكاة المصابيح\" ، وشرح الطيبي  قبل هذا على المشكاة مطبوع ، وكذلك من الكتب الحديثية التي اعتنى الناس بها شرحا كتب الأحكام ، فمثلا كتاب منتقى الأخبار لعبد السلام بن تيمية شرحه الإمام الشوكاني شرحا بارعا هو نيل الأوطار ، وأبدع فيه وأحسن إلا أن في الكتاب كثيرا من الأخطاء تعود إما إلى نقص المراجع ، أو للتحريف فيها ، وقد يكون البعض منها مطبعيا ليس من الشوكاني ـ رحمه الله ـ فكثيرا ما يلتبس فيها سليمان النخعي بسليمان التيمي ـ مثلا ـ أو مالك بن أنس بمالك بن دينار ، والكتاب محتاج إلى عناية لكنه مع ذلك قد بذل فيه جهد كبير والآن مرجع من مراجع شروح كتب الأحكام ، من أهمها أو هو أهمها على الإطلاق ـ تقريبا ـ .

وكذلك كتاب العمدة للحافظ المقدسي فقد شرحه ابن دقيق العيد إملاء ، وشرحه مطبوع موجود ، شرح العمدة لابن دقيق العيد ، وشرحه أحد المغاربة كذلك شرحا مستفيضا ، وهذا الشرح غير موجود لكنه لخصه الأمير الصنعاني في حاشيته على العمدة، وكذلك بلوغ المرام فقد شرحه عدد من الشراح ، والذي انتشر واشتهر كتاب الأمير الصنعاني عليه الذي هو سبل السلام ، وهو كتاب أراد فيه عزو المذاهب دون التوسع في الناحية الحديثة ، اعتنى بالناحية الفقهية دون التوسع في الناحية الحديثية ، يتمم تخريج زيادة على ما قاله الحافظ بن حجر ، لكن إذا أشار الحافظ لعلة أو نحوها لا يستقصي هو، واعتنى في الفقه بمذاهب الزيدية، وهو اختصار لشرح المغربي عليه فيما يتعلق بفقه المذاهب السنية ، لكنه أضاف إليه كثيرا مما لم يأت به المغربي من فقه الزيدية ، وفيه بعض الأخطاء كذلك التي قد تنشأ عن عدم اطلاع على كثير من مذاهب أهل السنة في المجال الفقهي.

كذلك كتاب الأحكام الوسطى للحافظ عبد الحق الإشبيلي ، ألف عليه الإمام أبو الحسن بن القطان كتابه \"بيان دفع الوهم والإيهام\" وهذا الكتاب حديثي بحت ، تكلم في الصنعة الحديثية يلاحظ فيها على عبد الحق بن الخراط الإشبيلي ـ رحمه الله ـ في أحكامه وانتقائه وتعليله ، فهو كتاب علل وتخريج ومقاربات بين الأحاديث ، والجمع بين المختلفات ، وفيه أبحاث اصطلاحية كبيرة ، ولذلك اعتمد عليه الحافظ بن حجر في كثير من المواقع ، يعتمد على ابن القطان الفاسي في كثير من الأمور المتعلقة بالعلل أو المتعلقة بالمصطلح ، والذهبي كذلك.

أما الكتب الجامعة في الحديث منها مثلا \"رياض الصالحين\" للإمام النووي ، شرحه عدد من الناس شروحا متوسطة ليس فيها شرح متميز.

هذا عن شروح الحديث ، وهو يدلنا على أهمية هذا العلم والعناية به ، وأنه على من يريد الاشتغال بالعلم أن يكون له اطلاع على هذه الشروح ، ومحاولة الجمع بينها ، وبالأخص في الأحاديث التي يخرجها عدد من المؤلفين في كتبهم فيتعدد شرحها.

ونسينا من الكتب المهمة في شروح الحديث في مجال الأحكام ، كتاب \"طرح التثريب شرح التقريب\" بدأه الحافظ العراقي ثم توفي قبل إكماله ، فأكمله ولده أبو زرعة ، وهو كتاب حافل كذلك ، الجزء الأول منه خصصه لشرح حديث \"إنما الأعمال بالنيات\" ، جزء كامل في شرح هذا الحديث ، وهذا الحديث شرحه آخرون بشروح مطولة من أهمها كتاب السيوطي \"منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال\" ، فالعراقي ذكر في الشرح مائة وثلاثين مسألة مستنبطة من هذا الحديث ، والسيوطي أورد فيه أكثر من مائتي مسألة مستنبطة من هذا الحديث ، الكتاب مطبوع كتاب السيوطي ، وكذلك \"طرح التثريب\" مطبوع متداول ، كذلك \"فتح القدير بشرح الجامع الصغير\" للمناوي وهو غير متوسع ولا مستوعب كذلك ، وإنما يعتني بالمسائل الفقهية والمسائل السلوكية ، وليس فيه كبير عناية بالاستدراك على أحكام السيوطي ، فإن كثيرا من أحكام السيوطي لم تكن معطياتها بالقدر الكافي ، وبالأخص عند تصحيحه لبعض الأحاديث التي لا تستحق تلك المنزلة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى وآله وأصحابه أجمعين.   من علوم السنة ـ كذلك ـ الخادمة لها علم التخريج ، وهو علم مهم لاقتضائه أمرين :

الأمر الأول : معرفة الحكم على الأحاديث تصحيحا وتضعيفا.

والأمر الثاني : معرفة ما فيها من الزيادات التي قد تكون مؤثرة في الحكم.

ولم يكن الأولون بحاجة إلى هذا العلم ، فلذلك لم يبتكروه ، وإنما احتيج إليه بعد أن اتسعت المؤلفات في الحديث وكان كثير منها كتبا مطولة يشق على الناس روايتها بالأسانيد ، بل قلت الرواية بالحفظ حينئذ فاحتيج إلى التخريج.

ولنبدأ بالمقدمات العشر لعلم التخريج ، فنقول :

تعريفه : \"هو بيان من أخرج الحديث أو الأثر ، وبيان موضعه من الكتاب ، وذكر الحكم عليه\" ، فإذن هو علم يتناول ثلاثة أمور :

أولا : بيان من أخرج الحديث من أهل العلم.

ثانيا: بيان موضعه أو مواضعه من الكتاب لأن الحديث الواحد قد يكون في كتاب مرات، مثل البخاري أخرج حديثا واحدا في الصحيح اثنين وعشرين مرة ، وأخرج عددا من الأحاديث ثماني عشرة مرة ، في مواضع مختلفة من الصحيح.

ثالثا : الحكم عليه ، إما بطريق النقل أن تعرف من حكم عليه من السابقين من أهل العلم الذين يختصون بهذا ، أو أن تحاول أنت قدر جهدك الوصول إلى قناعة فيه ، وهذه القناعة ستكون أمرا اجتهاديا ، يمكن أن توافق عليها ويمكن أن تخالف ، مثل القناعة التي تحصل للفقيه في المسألة المتجددة ، ولهذا فلو وجدت حكما على حديث بالتصحيح أو بالتضعيف فليس معنى ذلك أن الأمر فيه قد انتهى ، بل هذا مثل ما لو وجدت فتوى لأحد المفتين يمكن أن توافق عليها ويمكن ألا توافق ، تنظر إلى الدليل ، إذا حصلت لديك القناعة فبها ونعمت وافقت ، وإن لم تحصل لديك فأنت مطالب بالبحث من جديد.

أما موضوعه : فهو الأحاديث والآثار أي الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصحابة والمقطوعة كذلك عن التابعين وأتباعهم ، وجهة البحث فيها هي من جهة ذكر محالها والحكم عليها.

واضعه: ولا يعرف له واضع محدد، بل من المشاهير الذين اعتنوا بعلم التخريج الإمام الدارقطني ، وبعده كذلك الحاكم ثم البيهقي ثم بعده البغوي ، ثم جاء فارس هذا العلم الزيلعي ، وذلك بعد أن أصبح كثير من الفقهاء يعتمدون على الأحاديث الضعيفة ويدرجونها في كتبهم ، فيلتبس على دارس الفقه غير المتخصص ما هو دليل صحيح وما ليس كذلك ، فيحتاج هنا إلى التخريج ، وبالأخص إذا وجدت كتابا مشحونا بالأدلة ، فمن ليس طالبا للعلم يجد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعادة أن أهل الحديث لا يقولون هذا إلا للمجزوم بصحته، وهذه الكتب الفقهية مجردة من الأسانيد ، وأهلها أيضا لا يعتنون في الغالب بتخريج الأحاديث ، ومن النادر أن يقولوا \"أخرجه فلان\" وإنما يطلقون ذلك على ما كان في الصحيحين وهذا ـ أصلا ـ ينبغي ألا يكون محتاجا لتخريجه لأن الصحيحين ما زال الناس يحفظونهما ويروونهما.

فكان الزيلعي بداية سد هذه الثغرة ، فألف كتابه \"نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية\" ، والهداية شرح للمرغناني على كتابه \"بداية المبتدي في الفقه الحنفي\" وفيها عدد كبير من الأحاديث والآثار التي يستدل بها الحنفية ولذلك كان الكثير من علماء الحنفية يظنون أن كل ما فيها فهو صحيح ، سواء من الفقهيات أو من الأحاديث أو من الآثار.

وقد اعتنى صاحبها بها عناية بالغة فجمع فيها بين كتابين من كتب الحنفية ، كتاب \"الكتاب\" أي مختصر القدوري الذي إذا أطلق الحنفية \"الكتاب\" فإياه يعنون ، وكتاب \"الجامع الصغير\" لمحمد بن الحسن الشيباني ، فيأتي غالبا بألفاظهما ، ثم يضيف هو الأدلة زيادة على ذلك ، ولهذا قال فيه أحد الحنفية :

*إن الهداية كالقرآن قد نسخت ** ما ألفوا قبلها في الشرع من كتب*

*فاحفظ قواعدها واحفظ فوائدها **يسلم كلامك من زيغ ومن كذب *

ولهذا اعتنوا بها عناية كبيرة، وشرحوها كثيرا من الشروح، وقد وفق الزيلعي رحمه الله  لحصر أحاديث الكتاب وآثاره وتخريجها والحكم عليها ، والحكم المقصود هنا في التخريج هو الحكم على الحديث بالتصحيح أو التضعيف ، وليس مجرد الحكم على الإسناد ، فهذا من الصنعة الحديثية ، والتخريج إلى علم الدلالة أقرب منه إلى علم الرواية ، فالتخريج يتعلق بمرحلة من مراحل علم الدراية ، إذا عرفت صحته بعد ذلك تستنبط منه الفوائد.

وكان الزيلعي ـ رحمه الله ـ معتدلا في أحكامه وأبدى مهارة عجيبة في كتب الحديث ، ومع ذلك فقد يجتره موافقة المذهب إلى تضعيف بعض الأحاديث التي هي في أحد الصحيحين ، كحديث \"القضاء بالشاهد واليمين\" ، وهو في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وقد جاء عن عدد من الصحابة ، فقد روي من حديث جابر وأنس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم ، ووجه تضعيفه له من علتين إحداهما : أن ابن جريج وهو الذي رواه عن سيف بن عمر عن ابن شهاب قال فيه : فلقيت ابن شهاب فسألته فأنكره ، وأثنى على سيف بن عمر ، فابن شهاب لم يتذكر مرويه ، وأنكره ومع ذلك أثنى على سيف بن عمر ، وهذا لا يضعف الحديث ، لأن نسيان الراوي لمرويه إذا كان قد نقل عنه ، ونقله ثقة موجود وكثير ، فلا يكون طعنا فيه ، ولهذا فإن سهيل بن أبي صالح كان يحدث عن سفيان عن نفسه ، \"حدثني سفيان عن نفسي عن أبي\" لأنه هو نسي الحديث بعد أن حدث به سفيان فكان يرويه عن سفيان عن نفسه.

العلة الثانية أنه زيادة على النص ، لأن الحنفية يعتبرون أن الزيادة على النص نسخ مطلقا والله تعالى ذكر وسائل الإثبات في قوله : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) وجعل النصاب إما شاهدين وإما رجل وامرأتين ، فزاد الحديث شاهدا ويمينا، فقالوا هذا زيادة على النص ، والزيادة على النص نسخ ، والقرآن لا يمكن أن ينسخ بخبر آحاد معلل ، لكن يجاب عن هذا بأن هذه الزيادة ليست زيادة على النص ناسخة لأن القرآن ما جاء في هذه الآية لحصر وساءل الإثبات ، والحنفية يوافقون على اليمين في غير هذا الموطن، ويجعلونها وسيلة إثبات ، فدل هذا على أن المذكور في الآية نصاب الشهادة فقط ، حصر نصاب الشهادة في غير الزنا في المذكور ، أما وسائل الإثبات فلم تتعرض الآية لحصرها فمنها الإقرار وهو آكد من الشهادة بالاتفاق ، ومنها كذلك الكتابة التي ذكرها الله قبل هذا ، والرهن الذي ذكره قبل هذا، وسائل الإثبات كثيرة.

كذلك فإن من فرسان هذا الفن فقيه الحنابلة ابن رجب ـ رحمه الله ـ وقد كان ذا باع طويل في الحديث ، ومهارة عظيمة بعلله ، وقد تلقى ذلك عن تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذين أكسبهم هذه المهارة ، وقد ألف هو في التخريج فخرج كثيرا من الأحاديث إما في رسائل صغيرة وإما في بعض الكتب التي اعتنى بها ، وقبله ـ كذلك ـ عناية شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ بالتخريج للأحاديث التي يستدل بها بالخصوص ، لكن هذه لم تكن كتبا مستقلة ، والزيلعي في الواقع قد سبق للتخريج بهذه الطريقة المحكمة الواضحة المعالم في كتاب التنقيح ولذلك يعتمد عليه كثيرا ، فيعتمد كثيرا على التنقيح وينقل منه.

ثم جاء بعد الزيلعي الحافظ بن حجر فكان سيد أهل علم الحديث في زمانه في مختلف علوم الحديث ، ومنها علم التخريج ، فقد ألف كتابا اختصر فيه كتاب الزيلعي ، كتاب \"نصب الراية\" اختصره هو في كتاب \"البداية في اختصار تخريج أحاديث الهداية\" ، وكذلك خرج أحاديث \"شرح فتح العزيز في شرح الوجيز\" للرافعي ، وهو الشرح الكبير على الوجيز للغزالي ، الغزالي ألف ثلاثة كتب في الفقه الشافعي ـ سنذكرها إن شاء الله في الفقه ـ البسيط والوسيط والوجيز ، والوجيز يذكر فيه الأدلة مختصرة ويشير فيه إلى المذاهب الأربعة كذلك ، فكان أهم هذه الكتب ، وقد اعتنى به الشافعية كثيرا ومن الذين اعتنوا به الرافعي ألف عليه ثلاثة شروح كذلك ، شرح طويل هو الذي يسمى \"بفتح العزيز\" ، وهو مطبوع الآن ، وشرح متوسط وشرح مختصر ، وفتح العزيز هذا اعتنى به الشافعية عناية كبيرة ، فألف الفيومي \"المصباح المنير في غريب لغة الرافعي الكبير\" ما يتعلق بلغته ، وألف الحافظ ابن حجر ـ كذلك ـ \"تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير\" ، وخدم الحافظ في هذا الكتاب كثيرا من أدلة الأحكام ، وضعف كثيرا مما كان حجة قاطعة لدى كثير من الذين سبقوه من الفقهاء ، ولهذا فلدينا بعض الأحاديث التي اعتمد عليها في مرحلة من الفقه قبل أن ينتشر علم التخريج ، وبني عليها ما يمكن أن نصفه بأنه إجماع ، وهي في الواقع من ناحية الصنعة الحديثية ضعيفة ، مثل حديث \"كل قرض جر نفعا فهو ربا\" ، ومثل \"حديث النهي عن الكالئ بالكالئ\" ، وغيرها من الأحاديث التي هي ضعيفة من ناحية الصنعة ، ولكن حصل الإجماع عليها لقرون مضت ، فأصبحت الحجة فيها الإجماع.

وجاء قبل الحافظ بن حجر ـ كما تجاوزنا ـ شيخه أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين  العراقي ، الذي خرج أحاديث إحياء علوم الدين في كتابه \"المغني عن حمل الأسفار في الأسفار\" واعتنى ـ رحمه الله تعالى ـ بالتماس مراجع الغزالي التي هي كثيرة جدا، لأن  الغزالي فتح الله له في الحفظ فتحا عجيبا ، وفي الإطلاع ـ كذلك ـ لكثرة أسفاره والبلدان التي استقر فيها ، فكان تقصي مراجعه أمرا شاقا جدا ، وهي كثير من الأسفار ـ أي المجلدات ـ فأراد العراقي أن يجمع هذا الكتاب حتى يكون مغنيا عن حمل الأسفار في الأسفار.

وجاء السيوطي بعد الحافظ بن حجر فكان أيضا فارس التخريج في زمانه ، وقبله من المشاهير المخرجين أيضا الإمام الزركشي ، فقد ألف كتابه \"المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر\" ، منهاج البيضاوي ، والمختصر لابن الحاجب وكلاهما في أصول الفقه ، أحدهما هو عمدة المالكية ، والثاني هو عمدة الشافعية ، مختصر ابن الحاجب عمدة المالكية ، والمنهاج للبيضاوي هو عمدة الشافعية.

وجاء السيوطي فاختصر تخريجات الزركشي والعراقي وابن حجر في كثير من الكتب ، فألف كتابه \"تخريج أحاديث العقيدة\" ، وتخريج أحاديث \"المنهاج\" ، وتخريج أحاديث \"المختصر\" ، وتخريج أحاديث التفسير ، وهذا ذكرناه في علم التفسير ، وهو كتاب \"الدر المنثور\" ، وتخريج أحاديث النحو ، الأحاديث التي يستدل بها النحويون.

اعتنى السيوطي ـ رحمه الله ـ بالتخريج عناية كبيرة ، وذلك لطول يده أيضا في ما اطلع عليه من الكتب.

ثم بقي التخريج فترة بعد هؤلاء لم يجد فيه جديد ، وفي زماننا هذا رجع الناس إلى التخريج ، ومن الذين كان لهم الفضل في ذلك بعد الله تعالى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ فقد اعتنى في فترة طلبه بكتاب العراقي \"المغني عن حمل الأسفار في الأسفار\" وهو أول كتاب من كتب التخريج وقع في يده ، فاعتنى به ثم وجد بعد ذلك كتاب محمد مرتضى الزَّبِيدي في تخريج أحاديث الإحياء أيضا ، فمن هذين الكتابين تعلم التخريج ، فهو تلميذ في التخريج لكتاب الحافظ العراقي ، ولكتاب الشيخ محمد مرتضى الزَّبِيدي وقد ألف كثيرا من الكتب في التخريج ، بعضها يمكن أن يطلق عليه تأليف فعلا ، لأنه كتب منسقة منظمة ، سلك فيها قواعد التخريج ، وبعضها إنما هو مقالات حول أحاديث جمعت ولا تكون لها قيمة المؤلفات ، فمن الكتب التي لها  قيمة المؤلف ـ فعلا ـ كتاب \"إرواء الغليل\" وأراد به تخريج أحاديث \"منار السبيل في شرح الدليل\" ، ووفق في تخريج كثير منها مع أنه بداية مبكرة ـ إذ ذاك ـ لم يكن هو  مستوعبا إذ ذاك لكثير من القواعد الحديثية ، ولا لكثير من أسماء الرواة والحكم عليهم ، وأيضا كثير من الكتب ما انتشرت بالقدر الكافي ، وهو يرجع إلى مخطوطة واحدة قد يكون فيها خرم ، وقد يكون فيها نقص ، ولذلك حصل له فيه كثير من الأخطاء التي رجع عنها فيما بعد.

وأما الكتب التي ليست مؤلفة بمعنى التأليف الحقيقي فهي مثل كتابه \"صحيح الجامع الصغير\" ، ومثل كتبه في \"صحيح سنن أبي داود وضعيفه \" ، و\"صحيح سنن الترمذي وضعيفه\" ، و\"صحيح سنن النسائي وضعيفه\" ، و\"صحيح سنن ابن ماجه وضعيفه\" ، ومثل السلاسل : \"سلسة الأحاديث الصحيحة\" و\"سلسلة الأحاديث الضعيفة\" فهذه إنما هي مقالات حول أحاديث ، ولذلك كثير منها إحالات إلى كتبه السابقة ، إلى الإرواء وغيره.

وعموما فقد نفع الله باشتغاله هو بالتخريج ، فاقتفى أثره في ذلك كثير من الباحثين واعتنت به الجامعات ، وكان من فضل الله عليه هو أن انتدب للتدريس في الجامعة الإسلامية ، في أول نشأتها في المدينة ، والمدينة إذ ذاك فيها عدد كبير من العلماء الفطاحل الكبار ، وفيها أيضا عدد لا بأس به من ذوي الهمم ، من طلاب العلم الذين أصبحوا الآن ممن يشار إليهم بالبنان ، وأصبحوا أصحاب مدارس في الواقع ، فهؤلاء نشروا فكرة الألباني في إحياء علم التخريج ، ولذلك يمكن أن يوصف الشيخ الألباني في زماننا هذا بأنه شيخ \"مدرسة التخريج\" ، لكن لا يقال ـ مثلا ـ شيخ \"مدرسة الحديث\" ، أو شيخ \"علم الحديث\" ، علوم الحديث كثيرة ، وكثير منها ما له فيه يد ـ أصلا ـ وكثير منها يده فيه مثل غيره ، أو يوجد في معاصريه من هو أفضل منه في ذلك ، لكن في التخريج ـ فعلا ـ أفاد كثيرا ـ رحمه الله ـ نسأل الله أن يتقبل ذلك منه ، والذين تبعوه على هذا ـ أيضا ـ تفاوتت مستوياتهم تفاوتا عجيبا ، فمن الذين سلكوا الأسلوب العلمي في التخريج ـ فعلا ـ بعض الأفراد القلائل ، ومنهم ـ مثلا ـ أبو إسحاق الحويني في بعض تخريجاته ، فعلا تجد تخريج محقق ، درس التخريج ، سلك فيه طريقا لا بأس بها ، تخريجه ـ مثلا ـ كتاب ابن الجارود تخريج محكم.

ومن الذين عاصروا الألباني واستفادوا من تجربته ، وإن كانوا لم يتتلمذوا عليه بل ربما كان لهم سبق في علوم أخرى الشيخ شعيب الأرناؤوط ، ولا شك أنه في التخريج ـ أيضا ـ ضليع ، وكذلك محمد عبد الله الصديق الغماري الطنجي ( شمال المغرب ) ، وغير هؤلاء من المشاهير الذين يخرجون الكتب اليوم هم كثر.

أما فائدة علم التخريج فهي ـ كما ذكرنا ـ إحدى فائدتين الحكم عليه للاستنباط منه ، وهذه فائدة فيها مناقشة ذكرها الشوكاني ـ رحمه الله ـ هي أن كثيرا من الأئمة يحكمون على الحديث بالتضعيف ثم بعد ذلك يذكرون بعض فوائده ، وممن حصل منه هذا الحافظ بن حجر نفسه ، وسبقه إلى هذا عدد من الكبار كابن عبد الهادي الحنبلي وغيره ، ابن الملقن ، يحكمون على الحديث بالضعف ويقولون ويستنبط منه \"كذا وكذا\" وقصدهم بذلك التمرين الذهني للاستنباط ، وأن الحديث قد يجبر ضعفه من وجه آخر ، ولهذا فطريقة الشيخ الأمير الصنعاني ـ رحمه الله ـ في نقل التضعيف للحديث ثم يذكر بعد ذلك ما يستنبط منه إنما هي سالكة في هذا الفج ، والشوكاني وإن انتقد هذا فقد عمله أيضا ، هو في الفوائد المجموعة ينتقد هذا ثم يعمل به في غير الفوائد ، في نيل الأوطار.

أما علاقة هذا العلم أو نسبته إلى غيره من العلوم : فهي نسبة \"العموم والخصوص الوجهي\" لاشتراكه مع علم الحديث في دراسة الأسانيد والمتون ، ولاشتراكه كذلك مع علم العلل في هذين الأمرين ،  ولاشتراكه مع أصول الفقه في أوجه الاستنباط ، وفي الفقه كذلك ، لأن التخريج ـ غالبا ـ ينصب على أدلة الأحكام ، ونادر جدا أن تجد من الناس من يخرج ما يتعلق بغير أدلة الأحكام ، نعم لا شك أن بعض الناس خرج بعض ما لا علاقة له بأدلة الأحكام بصفة مباشرة ، مثلا القاضي عياض خرج حديث أم زرع ، ولم يقصد التخريج فقط ، ولذلك ذكر ما يستنبط منه وسما كتابه  \"بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد\" ذكر أوجهه وهل هو مرفوع كله ، أو المرفوع منه فقط \"كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك\" أو غير ذلك ، وحصر طرقه ثم ذكر ما يستنبط منه من الفوائد ، وأجاد وأفاد ـ رحمه الله ـ .

وكذلك الحافظ بن حجر ـ مثلا ـ في حديث \"لا تسبوا أصحابي\" قد خرجه في جزء مستقل ، ذكر فيه طرق هذا الحديث وحاول أن يستوعبها.

وكذلك السيوطي في الأحاديث المتواترة حاول استيعاب بعض الطرق لبعض الأحاديث مثل حديث \"نضر الله امرء سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها\".

أما حكمه : حكم علم التخريج فهو \"فرض كفاية\" على غير المناظر ، أما المناظر فيجب عليه أن يعرف درجة الحديث الذي يناظر به ، لأنه لا يحل له أن ينسب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لا يجزم بأنه قاله ، ولذلك فإن أول حديث في صحيح مسلم في مقدمته أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : \"من حدث عني بحديث وهو يراه مكذوبا علي فهو أحد الكاذبِين ، أو الكاذبَيْن\".

وفضله : هو بحسب ما يستفاد منه ، لأن فضل كل علم بحسب فائدته.

واسمه : \"التخريج\" ، وأصله من الإخراج ، كأن الإنسان يريد خروج ذلك الحديث من روايته لينتشر بين الناس ، ويقال في فعله : \"خرَّج\" وأخرج\" فيقال :\"أخرج أحمد في المسند ، وخرج أحمد في المسند\" ، لكن للمتأخرين مصطلح خاص فالدمياطي ـ رحمه الله ـ يفرق بين \"أخرج\" و\"خرج\" ، فإذا قال \"أخرج\" فمعناه أن الحديث مما يستدل به ، مقبول سواء كان صحيحا أو حسنا أو غير ذلك ، وإذا قال \"خرج\" فمعناه أن الحديث مردود لا يستدل به ضعيف أو موضوع ، هذا الفرق بين \"أخرج\" و\"خرج\" لكنه فرق اصطلاحي ليس لغويا.

وأهل الحديث إنما يفرقون بين \"الاستخراج\" و\"الاخراج\" ، ف\"الإخراج\" هو ـ كما ذكرنا ـ ذكر طرق الحديث ، ومن رواه وموضعه ، والحكم عليه ، وأما \"الاستخراج\" فهو ذكر طريق للحديث غير طريق صاحب الكتاب ـ كما ذكرنا من قبل في المستخرجات.

بهذا نكون قد أتينا ـ حكما ـ على مقدمات علم التخريج.

................................................................

السؤال1: نريد تعليقا على منهجية المؤلفين في الحكم على بعض الأحاديث تصحيحا وتضعيفا وكذلك افتراق شخصيتهم بين التشدد والتساهل في مختلف مؤلفاتهم ؟

الجواب: أن علمائنا ـ رحمهم الله ـ لم يكن لديهم التخصص كما ذكرنا من قبل ، وإنما كانت علومهم علوما شمولية ، والعلوم نفسها مؤثرة بحسب حال الدارس ، فيتكل في دراسة الفقه إذا ذكر دليلا على أنه سيدرسه في مكان آخر ، وإذا درسه في الجانب العقدي ـ مثلا ـ يحيل عليه في موضع آخر وهكذا ، ولذلك تكثر الإحالات في كتبهم ، كثير من علمائنا إذا قرأت لهم لا تقرأ صفحة إلا وفيها \"ومحل استقصاء ذلك في موضع آخر ، وقد استقصينا ذلك في مكان آخر\" \"والمقصود هنا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية\" \"وقد بينا  ذلك في موضع بما هو أبسط مما هنا\" \"والمقصود هنا كذا وكذا\" ، ولذلك فهم يحيلون إلى مراجعهم لأنها جاهزة لديهم ، فإذا كان أحدهم يؤلف في الفقه قد يتساهل بجلب بعض الأحاديث الضعيفة تبعا للفقهاء لأنه الآن في مملكة الفقهاء وسالك لطريقهم ، أما إذا كان يؤلف في التخريج وفي العلل فيأخذ  بدقة أهل التخريج والعلل ، وبهذا يكون له أكثر من شخصية ، أما ما يحصل من نقل بعض أهل العلم لبعض الأحاديث بتضعيفها في موضع وتصحيحها في موضع فذلك لزيادة علم ، إما عن طريق زيادة علم فعلا فيكون هذا رجعة عن الحكم السابق ، وإما أن يكون من باب الوهم والذهول والنسيان وكل ذلك ممكن ، والسيوطي ـ رحمه الله ـ من المشهورين في هذا ، فيصحح حديثا في كتاب من كتبه ثم يضعفه في كتاب آخر ، لتجدد علم تجدد لديه في الأمر ، أو لأنه في هذا الكتاب يقصد اختصار كتب معينة أصحابها يضعفون هذا الحديث ، وفي موضع آخر إنما يقتفي  الذين ذكروه مطلقا ، أو يعتمد هو على نفسه فيصححه اعتمادا على معلوماته ، وكذلك نقوله عن الأئمة كثيرا ما يقع فيها مثل هذا ، كنقله عن مالك ـ رحمه الله ـ أنه كان يرى تحريم الاقتباس من الكتاب والسنة في الشعر ، فنقل عنه هذا في \"شرح عقود الجمان\" ونقل عنه نظيره أيضا في \"الإتقان في علوم القرآن\" وكذب ذلك تكذيبا قاطعا في \"شرح الموطأ : تنوير الحوالك\"، و\"تنوير الحوالك\" في التأليف متأخر على الكتابين السابقين ، وهذا ما نظمه شيخي محمد سالم بقوله :

*ما ذكر الجلال في الإتقان** وفي عقوده من الجمان *

*من منع الاقتباس عند مالك** أكثر في تنويره الحوالك*

*من رده ونسب الفُشارا** لمن إلى تحريمه أشارا*

*أقول والتاريخ بالتأخير **يحكم للتنوير حاوي الخير*

ولهذا فما يفعله اليوم الذين يتقصون الزلات ويبحثون عنها من دراسة كتب الشيخ الألباني ـ مثلا ـ ليجدوا فيها تضعيفا لبعض الأحاديث في موضع وتصحيحا له في موضع آخر ، هذا منهج غير مستقيم ، والتصحيح والتضعيف كلاهما حينئذ منبن على تغير قناعة الإنسان بحسب علمه ، وقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ \"تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي\" والإنسان يجب عليه تجديد الاجتهاد في كل أمر ولا يأنف عن الرجوع إلى الحق ، ولهذا كتب عمر إلى أبي موسى في كتاب القضاء \"ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق ، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء ، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل\".

أما بالنسبة لمنهجيات الناس فلا شك أن العلم الحديث اليوم قد أو جد مناهج منضبطة في الغالب ، إن لم يسلكها الإنسان في كل كتبه فعلى الأقل يلتزم بها في الكتاب الواحد ، مثل الرسائل العلمية اليوم ، إذا أخل بمنهجه حتى في ترتيب الأقوال ، أو في مناقشة الأدلة أو غير ذلك يحاسب على ذلك ، لأنه غير المنهجية ، أما لدى القدماء فتغيير المنهجية لديهم قد يكون محبوبا ، وبالأخص من يؤلف في النحو والبيان ، فأهل البلاغة يفضلون التغيير في الأساليب على الروتين فيها لأنهم يرون أن الروتين فيها مقتض للملل ، والتغيير فيها إبداع جديد ، وتعبير بأساليب مختلفة ، ولذلك فابن مالك ـ رحمه الله ـ في ألفيته ينتهج دائما هذا المنحى البلاغي قال مثلا في عد الضمائر المنفصلة :

*ومن ضمير الرفع ما يستتر** كافعل أوافق  نغتبط إذ تشكر*

*وذو ارتفاع في انفصال أنا هو**وأنت والفروع لا تشتبه*

*وذو انتصاب في انفصال جعلا ** إياي والتفريع ليس مشكلا*

فيجعل الحكم الإعرابي ظرفا في البيت الأخير ، ويجعله هو الحكم ويجعل الانفصال هو الظرف في البيت الذي سبقه ، يغير المنهجية تبعا لهذا.

بالنسبة للمشتغل بالتخريج ، بتخريج أي حديث إذا كان مؤلفا يكتب لغيره ، لا يجزئ في تخريجه أن يقول \"صححه فلان أو ضعفه فلان\" هذا لا يكفي ، بل إنما يكفي في ذلك لو أتى بعدد كبير من العلماء المشاهير تواتروا على تصحيحه ، يمكن أن تبرأ ذمته هو إذا قال \"صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والحافظ بن حجر وفلان وفلان عد مجموعة ، لأنه لا يمكن أن يكون هؤلاء جميعا من المتساهلين ويحصل عليهم الخطأ جميعا ، ومع ذلك فالأحوط دائما له هو أن يبحث عن قناعته ـ هو ـ فإذا حصلت لديه القناعة اكتفى ، ولا فرق بين نقله للتصحيح والتضعيف وبين نقله لفتوى عالم من العلماء في مسألة فقهية ، ومع الأسف أن كثيرا من الباحثين في المسائل الفقهية يضرب الذكر صفحا عن قول الأمام أحمد وقول ابن قدامة وقول ابن تيمية ، ويأتي هو باجتهاده ، أما في التخريج فيقول \"صححه الألباني\" ويكتفي ، فلماذا تقلد تقليدا أعمى لشخص معاصر لك في مسألة والأخرى تتنكر فيها بالكلية للتقليد حتى للمجتهدين الكبار.

السؤال2: لماذا المحدثون يتساهلون في حال الجمع وإذا كانوا في حال النقل يتشددون؟

الجواب: أن أصل ذلك أن أهل الحديث ينصحون طالب الحديث في مرحلة الطلب ب\"التقميش\" وفي مرحلة التأليف ب\"التفتيش\" ، ولذلك ذكر العراقي ـ رحمه الله ـ قولهم

*قمش إذا قرأت قمش قمش ** فتش إذا حدثت فتش فتش*

في حال الجمع \"يقمش\" ويجمع كل شيء وفي حال التأليف والتحديث \"يفتش\".

السؤال3: هل الاختلاف بين النظرية والتطبيق حاصل، وهل هناك تفريق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف؟

الجواب: أن القضية المهمة في هذا الباب أن يعلم أن الاختلاف بين النظرية والتطبيق حاصل فعلا ، وقد انتبه له كثير من العلماء الذين يسميهم الناس بالمحققين ، فمثلا ابن نُجَيم من الحنفية كثيرا ما يأتي باستدراك ، عندما يقعد الحنفية قاعدة من القواعد ، يأتي هو ويقول \"انظر إلى الاضطراب الحاصل في كلامهم بين القاعدة وبين فروعها\" يقصد بين النظرية والتطبيق ، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية انتبه إلى فرق كبير في التطبيق والتقعيد ونبه عليه أيضا في بعض المواضع.

ومن أمثلة الاختلاف بين التطبيق والتقعيد حتى في القواعد الفقهية العادية ، قاعدة \"لا إنكار في مسائل الخلاف\" هذه قاعدة قعدها المذاهب ، وقالوا الإنكار يشمل مثلا نقض الحكم ، قالوا لا ينقض حكم القاضي إلا إذا خالف النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو جلي القياس أو القاعدة المعتبرة..

*إذا قضى حاكم يوما بأربعة **فالحكم منفسخ من بعد إبرام*

*خلاف نص وإجماع وقاعدة**كذا القياس الجلي قدك إفهام*

جاء القرافي وقال \"لا بد من تقييد هذه المذكورات فإذا قيل \"خلاف النص\" فالمقصود به خلاف النص الخالي من المعارض ، وإذا قيل \"القاعدة\" فالمقصود بها الخالية من المعارض ، وإذا قيل \"خلاف القياس الجلي\" فالمقصود الخالي من المعارض، وأما \"الإجماع\" فالمقصود به الإجماع الواقعي وليس الإجماع السكوتي ، الإجماع الصريح.

وجاء ابن تيمية فقيدها تقييدا آخر فقال : المقصود بقولهم \"لا إنكار في مسائل الخلاف\" مسائل الاجتهاد وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر ، ومن هنا فالمسائل غير الاجتهادية التي هي محسومة بالنصوص القوية ينقض فيها الحكم وينكر فيها على المخالف.

جاء ابن الهمام من الحنفية بعد ابن تيمية فاستدرك استدراكا آخر فقال لا معنى للتفريق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف !! كيف نعرف أن المسألة من مسائل الاجتهاد أو ليست منها بحسب المختلفين فيها فإذا ثبت أن أبا حنيفة والشافعي ومالكا وأحمد أهل اجتهاد فاختلفوا في مسألة فلا يمكننا إلا أن نحكم عليها بأنها من مسائل الاجتهاد ، ومن مسائل الاختلاف ، وقد ثبت أنهم أهل اجتهاد ورفعة فكل أمر اختلفوا فيه فهو قابل للاجتهاد ، وابن تيمية ـ رحمه الله ـ ذكر أمثلة منها مثلا \"النكاح بلا ولي\" قال هذه من مسائل \"الخلاف\" وليست من مسائل \"الاجتهاد\" ، لأنها محسومة بالنص ، ابن الهمام يرد عليه يقول : \"هذا النص يقابله نص آخر\" فأنت تعتمد على حديث أبي موسى الأشعري \"لا نكاح إلا بولي\" ، ونحن نعتمد في عدم اشتراطه على قول الله تعالى : ( فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ) فلا يحسم الخلاف سيبقى الخلاف موجود دائما.

فإذن الاختلاف بين النظرية والتطبيق موجود ومن المسائل اللاحقة لهذه العمل بالضعيف ، فقد ذكر كثير من أهل العلم ومنهم الإمام النووي وسلطان العلماء العز بن عبد السلام والمنذري \"أن الضعيف يعمل به في فضاءل الأعمال\" وجعلوا هذه قاعدة ، لكن المشكلة عندما نأتي للتطبيق ، ما هي فضائل الأعمال ؟ وما مقصودكم بفضائل الأعمال ؟ إذا قصد بها مندوبات الصلاة ومندوبات الحج يسكون هذا تشريعا في الصميم ، ويكون فيها بدع لا أول لها ولا آخر ، كثيرة جدا ، وإذا قصد بفضائل الأعمال الرقائق والأخلاق والزهديات وما يدل على زيادة الثواب في أمر من الأمور ، هذا أمر يسير ، لأنها لا تكون حينئذ دليله ، ومن الذين انتقدوا هذه القاعدة ولا حظوا عليها الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ فقد اهتم بهذه القاعدة كثيرا وتشدد فيها ، وشدد النكير على النووي وغيره ، في مقدمة كتابه صفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك في مقدمة السلسة ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة ، لكن الواقع أن الألباني ذهب إليها من ناحية التطبيق والعلماء السابقون ذهبوا إليها من التقعيد ، ولهذا فيمكن الدارس المنصف أن يجمع بين أقوالهم وأن يجد أن الأمر أسهل مما جعله فيه الألباني ـ رحمه الله .

السؤال4: نريد بيان أهمية الإسناد وما هي وضعية الكتب غير المسندة؟

الجواب: بالنسبة للإسناد ـ كما ذكرنا من قبل ـ هو \"نسب الحديث ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، والإسناد من خصائص أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ \" وأهل الحديث يقولون \"كفى بالرجل شرفا أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ\" ، وهو اتصال واقعي ، اتصال روحي بالرواية بينك وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين أهل العلم الذين تروي عنهم ، ولذلك ما كان ينبغي للأمة أن تفرط في الأسانيد ولا أن تتركها.

أما واقعنا اليوم فلا شك أن كثيرا من الكتب التي وصلت إلينا غير مروية ، وقد ذكرنا من قبل أن كثيرا من الطبعات غير موثوقة ونبهنا إلى كثير من الأخطاء الفاحشة فيها ، فما الحل ؟ كثير من الذين يمتهنون التخريج في زماننا هذا يعتمدون على مخطوطة واحدة موجودة في مكتبة في الغرب ـ مثلا ـ ويعتبرون بذلك الحديث صحيحا أو ضعيفا اعتمادا على أنه موجود في كتاب لابن أبي الدنيا أو كتاب لابن أبي عاصم غير مشهور، وغير مروي وموجود في مخطوطة من المخطوطات في ألمانيا أو بريطانيا ، أو حتى في بعض البلدان الإسلامية ، هذه مشكلة كبيرة.

وقد تكلم عنها ابن عبد البر والسيوطي من قبل ، فابن عبد البر قال : \"إن السنة محفوظة كحفظ القرآن ، لأنها وحي ، وأما ما نسي من المؤلفات والكتب الكبيرة التي ما وصلت إلينا فمعناه أن الأمة ليست بحاجة إليها فتكون كما نسخ ، ولذلك التبقير عنها وإخراجها من جديد غير مطلوب شرعا ، وهو من التعني الذي لا فائدة فيه\" فيرى أنه مثل المنسوخات والمنسيات ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ).

وكذلك السيوطي تكلم عن هذا الأمر فذكر \"أن ما يحتاج إليه عوام الأمة موجود لدى العوام ، وما يحتاج إليه الخواص موجود لدى الخواص\" ، فمثلا قد تكون بعض الأحاديث في كتب نادرة ، لا يحتاج إليها كل الناس ، لكن العلماء والجهابذة تصل إليها أيديهم ، أو على الأقل تصل إليها يد من تقوم به الحجة في ذلك الباب.

وعموما لا يزال هذا الأمر محل إشكال لأن المحدثين يجعلون التحديث بالحديث أو نسبته إلى كتاب دون أن يكون للإنسان فيه رواية من سرقة الحديث التي يجرح بها الإنسان ، كثير من الرواة الذين ضعفت بهم الأحاديث ما ضعفوا من قبل دين ولا صدق وإنما ضعفوا من قبل سرقة الحديث ، وهم عدد كبير ، واليوم أكثر المخرجين من سراق الحديث ، ما لهم رواية في هذه الكتب ، لكن يمكن أن يقال إن هذا النوع مما يرجع فيه إلى الاستئناس بعدد النسخ الموجودة ، ولا شك أن الثقة بكتاب توجد منه عشرون نسخة خطية أقوى وأكبر من الثقة بكتاب لا يوجد منه إلا نسخة واحدة منسوخة من شريط فيها كثير من الضبابية والمحو ، ومع الأسف فإن كثيرا من المحققين يصورون المخطوط فإذا رجعت إلى الصورة فقط التي أرادوا بها الإثبات وجدتهم خالفوها فيما كتبوه ، ومن أمثلة ذلك هذا الذي حقق كتاب الموطأ من رواية أبي مصعب الزهري في مجلدين ، وهو مطبوع منشور، صور صورة المخطوطة التي اعتمد عليها الصفحة الأولى ، وكتب هو الحديث الأول الذي أخرجه مالك في الموطأ ، حديث الزهري \"أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما وهو بالمدينة فدخل عليه عروة بن الزبير فقال أليس قد علمت أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالكوفة فدخل عليه أبو مسعود البدري فقال : ما هذا يا مغيرة : (أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم صلى فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم صلى فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم صلى فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم صلى فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم قال : بهذا أمرت) ، \"ثم قال بهذا أمرت\" واضحة جدا في المخطوطة ، وهم حرفوها ومسخوها ، فجعلوا مكانها كلمة أخرى بعيدة ما لها علاقة بالحديث ، وليست مروية أصلا.

بالنسبة للكثير من المحققين الذين لا يقرؤون الخطوط لا يوثق بهم لأنه يمكن أن يجد مخطوطة بالخط الفارسي وهو لا يحسن هذا الخط أو بالخط الكوفي وهو لا يحسنه ، أو بالخط المغربي وهو لا يحسنه ، فيكتب خلاف ما فيها ، وأنت عندما تراها تجد الحق واضحا فيها.

السؤال5: هل يمكن لغير المتخصص في التخريج أن يخرج؟

الجواب: بالنسبة لغير المتخصص في التخريج ينبغي أن يرجع إلى عدة مراجع حتى تحصل لديه قناعته هو ، وإذا لم يكن لديه وقت لذلك فبالإمكان أن يسأل مباشرة ، يسأل من يثق بدينه وعلمه ، فيجعل القضية في عنقه وهو المسئول عنها ، وهذا الذي كان يفعله أهل العلم من قبل ، فمثلا السؤالات كثيرة لدى المحدثين ، طبع الآن سؤالات أبي داود للإمام أحمد في العلل ، سؤالات الترمذي للبخاري أتى بها في علله: سألت محمدا ـ البخاري ـ عن هذا الحديث فقال : \"فيه نظر\" ، وكذلك سؤالات عدد من الأئمة للدارقطني ، سؤالات عدد من الأئمة لابن معين ، وسؤالات الشيخ السلفي أيضا لبعض شيوخه، هذه كلها طريقة معروفة في التخريج ، يكون الشخص غير متخصص أو ما زال طالبا فيسأل من هو أقوى منه ويثق بحكمه.

أما اليوم فقد يسر الله ـ أيضا ـ هذه الدسكات التي تجمع كثيرا من المتون، فيسهل الرجوع إليها في وقت واحد ، وإن كانت الطبعات نفسها تجد فيها أخطاء فاحشة جدا ، لكن عموما تقارن بينها ، وقد ابتلينا بهذا في كثير من الكتب ، مثلا كتاب \"المسند للطيالسي\" هو أقدم مسند لدينا اليوم ، كل طبعاته فيها أخطاء لا تتصور ، أخطاء فاحشة جدا، وابتلينا بذلك فكنا نرجع فيه إلى السنن الكبرى للبيهقي فنجد الحديث صحيحا فيها ويكون بوسائط طبعا بالنزول ، لكن البيهقي يرويه بإسناده إلى أبي داود الطيالسي ، فيصحح مسند الطيالسي من سنن البيهقي، ومثل ذلك المستدرك يصحح من سنن البيهقي ، سنن البيهقي أصل يصحح منه ما سبقه ، كل كتاب متأخر تجعله بمثابة نسخة جديدة من كتب السابقين وتراجع ما فيه.

....................................................................................

بسم الله الرحمن الرحيم

لدينا الآن علم العلل ، وهو علم كذلك من العلوم الخادمة للسنة ، من العلوم المهمة ، التي لا يتجاسر عليها إلا أهل العلم ليست لعوام الناس ، وقد ظهر في هذا العلم مهارة أقوام هيأهم الله سبحانه وتعالى لتحمل مسؤولية الدفاع عن سنة نبينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم الجهابذة.

وهذا العلم هو أرقى وأدق ما وصل إليه المحدثون في علوم الحديث عموما ، وهو مادة علم التخريج.

التخريج كما ذكرنا يقصد به الحكم على الحديث ليعرف هل يبقى في لائحة ما تستنبط منه الأحكام أو يقصى ، التخريج نتيجته هي القبول أو الرد ، ومادة ذلك \"العلل\".

وإذا أردنا تعريف \"علم العلل\" فإن ذلك مما يشق ، فقد سئل عنه عدد من الأئمة ـ عن تعريفه الجامع ـ فما استطاعوا أن يأتوا بذلك ، سئل أبو حاتم الرازي عن علم العلل ما هو ؟ عن هذه العلة التي تقولها ما هي ؟ فقال : \"إذا سألتني عن حديث فقلت هو معلل فاذهب إلى أبي زرعة ، فسيقول هو معلل ، ثم اذهب إلى ابن حنبل فسيقول هو معلل ، ثم اذهب إلى يحيى بن معين فسيقول هو معلل ، فإذا رأيت ذلك فاعلم أنه \"نور يجعله الله في قلب من شاء من عباده\".

هذا ليس تعريفا للعلم ، لكنه يدلنا على أن \"علم العلل\" هو من صيانة الله ـ سبحانه وتعالى ـ لشرعه ودينه ، وأنه قناعة تحصل لدى المحدث بضعف في الحديث أو مرض فيه ، هذا المرض أنواع منوعة ، وهذه القناعة لا تحصل إلا لمن كان متمرسا في الحديث ، فالمتمرس في الحديث الدارس له يصل إلى مستوى لا يلتبس عليه أسلوب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب غيره ، مثل أصحاب الذوق البلاغي إذا تخصص أحدهم في شاعر من الشعراء عرف هل هذه الأبيات من شعره أو ليست من شعره ، لأنه يعرف قاموسه ولغته وأسلوبه ، ومعانيه التي يتطرق إليها ، فكذلك المتخصص في الحديث إذا استوعب كثيرا من الأحاديث وانطبع بها عرف ما كان من مشكاة النبوة مما كان مرويا بالمعنى ، مما كان لا أصل له أصلا.

ومن هنا سنجعل الحديث من باب العلل إلى ثلاثة أقسام :

حديث فعلا مروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معناه ألفاظه من ألفاظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

المستوى الثاني : ما هو مشبه أي أحكامه صحيحة من أحكام الشرع ، أو يمكن أن تكون صحيحة ، لكن ألفاظه مروية بالمعنى ، ليست من ألفاظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمعانيه معان نبوية ، لكن ألفاظه ليست كذلك.

القسم الثالث ما هو بعيد في اللفظ والمعنى جميعا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

وبهذا التقسيم يتبين أن تعريفنا الذي يمكن أن نصل إليه ل\"علم العلل\" أن يقال : \"هو العلم الذي يكتشف به ما يرد على الحديث مما ينقص حجيته أو يضعف روايته ، مما هو غامض\" فالعلل مختصة بما هو غامض ، ومختصة ـ كذلك ـ بما ينقص الحجية ، أو يضعف الرواية.

وهي تنقسم إلى قسمين إلى ما يتعلق بالأسانيد وما يتعلق بالمتون ، فما يتعلق بالأسانيد الأمر فيه ميسور ، لأنه من باب علم الرواية ، فتعرف مثلا أن فلانا حدث بهذا الحديث كثيرا عن فلان ، لكنه في مجلس من المجالس أدرج شخصا بينه وبينه ، قال : حدثني فلان عن فلان ، تنتبه أنت حيث لم تكن مطمئنا في الأصل لهذا الحديث تماما فتقول فلان هذا الحديث دلس فيه فأسقط فلانا بين فلان وفلان.

الأربعاء, 08 ديسمبر 2010 14:48
 

آخر تحديث للموقع:  السبت, 26 أبريل 2025 14:34 

رمضانيات

اشترك في القناة

فقه الحج

برامج تلفزيونية

جديد الموقع

إحصائيات

المتصفحون الآن: 26 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow